:(
يَقُولُ اللهُ تباركَ وتعالَى في القُرءانِ الكَريمِ: ﴿
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ سورة الإسراء/9.
لقد أَرْسَلَ اللهُ سيدَنا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلعالَمِينَ وأنزَلَ عليهِ القُرآنَ الكَرِيمَ هُدًى لِلنَّاسِ، فَفَازَ وَأَفْلَحَ مَنْ آمَنَ بِهِ واهتَدَى بِهُدَاهُ فَهُوَ كَلامُ اللهِ الذِي لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بينِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، وَلِذَلكَ فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِي بِتَعَلُّمِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَدَبُّرِ مَعَانيهِ بَدَلَ أَنْ يَصْرِفَ وَقْتَهُ فِي اللهوِ وَاللعِبِ، فقد قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "
تَعَلَّمُوا القُرْآنَ واقرَءُوهُ وارقُدُوا، فَإِنَّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بهِ كَمَثَلِ جرابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ رِيحُهُ في كُلِّ مَكَانٍ وَمَثَلَ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ في جَوْفِهِ كَمَثَلِ جرابٍ أُوكِئَ علَى مِسْكٍ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وابنُ حِبان.
ومعنَى قولِه "وارقُدُوا": أيِ اجعَلُوا آخِرَ عَمَلِكُمْ بِالليلِ قِرَاءَةَ شىءٍ مِنَ القُرْآنِ الكَريمِ قَبْلَ النَّومِ والجَرابُ وِعَاءٌ مَعْرُوفٌ.
ومعنَى "أُوكِئَ": أُقْفِلَ.
ومعنَى قَوْلِهِ "وَقَامَ بِه": أَيْ عَمِلَ بِمَا فيهِ وَيَشْملُ ذلكَ العَقِيدَةَ والأَحْكَامَ.
فَفِي هذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ حَثٌّ عَظِيمٌ عَلَى تَعَلُّمِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالعَمَلِ بِهِ لأنَّ تَعَلُّمَ القُرْآنِ الكَرِيمِ يُنَوِّرُ القَلْبَ، والعَمَلَ بِهِ يَهْدِي إلَى صراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيُقَوِّي الفَهْمَ، وَتَرْتََفِعُ بِتِلاوَتِهِ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ دَرَجَةُ المُؤْمِنِ المُخْلِصِ الذِي يَتْلُوهُ بِنِيَّةٍ حَسَنَةٍ خَالِصَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخُشُوعٍ وسكينَةٍ ووقَارٍ مَعَ البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتعالَى. فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رضيَ اللهُ عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "
يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرْآنِ اقرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا" رواهُ أبو داودَ والتِّرمِذِيُّ.
وروَى البيهَقِيُّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ أنهُ قالَ:
"اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا وَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا".
ومعنَى ذلكَ أَنْ يَتَكَلَّفَ البُكَاءَ عندَ القِرَاءَةِ لِيَخْشَعَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. فَعَنْ صَالِحٍ المرّي قالَ: "قَرَأْتُ القُرْآنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المنامِ فَقَالَ لِي: يَا صَالحُ هذهِ القِرَاءةُ فَأَيْنَ البُكَاءُ؟".
فقراءةُ القُرآنِ إِذَنْ عَلَى الوَجْهِ الصَّحيحِ أي إِنْ تَعَلَّمَهُ بِالتَّلَقِّي عَنْ قَارِئٍ فَأَتْقَنَهُ فَصَارَ يَتْلُوهُ فَهُوَ عَلَى خَيْرٍ عَظِيمٍ عَظِيم، وَكَذَا مَنْ سَمِعَ القُرْآنَ مِنْ قَارِئٍ فأَنْصَتَ وَخَشَعَ للهِ فلَهُ كذلكَ أَجْرٌ كَبِيرٌ، قالَ اللهُ عز وجلَّ:
﴿وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ سورةُ مريم/58.
وعنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: "قالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"اقرأ عليَّ القرآنَ" فقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ:
"إِنِي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي" فَقَرَأْتُ علَيْهِ سُورَةَ النِّساءِ حَتَّى جِئْتُ إلَى هذهِ الآيةِ،
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا﴾ قالَ:
"حَسْبُكَ الآنَ" فَالْتَفَتُّ إليهِ فإذَا عَيْنَاُه تَذْرُفَانِ" مُتَّفَقٌ عَليه.
إنَّ الإِقْبَالَ عَلَى تَعَلُّمِ القُرْءآنِ الكَريمِ والرَّغْبَةَ في ذلكَ وَبَذْلَ الجُهْدِ وَالوَقْتِ لِتَلَقِّيهِ وَسَمَاعِهِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ عَلَى الوَجْهِ السَّديدِ لِلْعَمَلِ بِهِ هُوَ دَأْبُ الصَّالِحينَ وَسَيْلُ المهتَدِينَ، فَمَنْ فَهِمَهُ عَرَفَ العَقِيدةَ الحَقَّةَ أَنَّ اللهَ موجودٌ بلا مَكَانٍ وَأَنَّهُ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، وَعَرَفَ الأَوَامِرَ التِي حَثَّ عليهَا الشَّرْعُ الشَّريفُ والْمَنْهِيَّاتِ التِي نَهَى اللهُ تَبَارَكَ وتعالَى عَنْهَا أَيْضًا، وعرَفَ أيضًا الفَضَائِلَ والآدَابَ وَكَثِيرًا مِنَ الأَسْرَارِ التِي جَعَلَهَا اللهُ في هذَا الكِتَابِ العَزيزِ.
ومنَ المناسِبِ والمفيدِ أَنْ نَذْكُرَ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنَ السُّوَرِ في القُرآنِ مَا لَوْ قَرَأَ بِهَا المسلِمُ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَا يُشْبِهُ أَجْرَ مَنْ قَرَأَ ثُلُثَ القُرْءآنِ وَمِنْهَا مَا لَوْ قَرَأَ بِهَا كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَا يُشْبِهُ أَجْرَ مَنْ قَرَأَ رُبُعَ القُرْآنِ. وَمعنَى يُشْبِهُ أي لَيْسَ مُسَاوِيًا تَمَامًا لِمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ أَوْ رُبُعَ القُرْآنِ بَلْ يَشْبِهُهُ. فقد قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"قُل هُوَ اللهُ أَحَد تَعْدِلُ ثُلثَ القُرآنِ وَقُلْ يا أيُّها الكَافِرون تَعْدِلُ رُبعُ القرآنِ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ والحَاكِمُ.
ومعنَى تَعْدِلُ: تُشْبِهُ. إِذْ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الإِخْلاصِ مَثَلاً أَجْرُهُ مُسَاوِيًا تَمَامًا لِمَنْ قَرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ حَقيقةً.
وعن أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"مِنَ القُرْآنِ سُورَةٌ ثَلاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ تَبارَكَ الذِي بِيَدِهِ المُلْكُ" رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ.
وليُعْلَمْ مَعَ هذَا كُلِّهِ أَنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ فِيهِ أَيْضًا شِفَاءٌ لِلنَّاسِ وَحِفْظٌ مِنْ شُرورِ الإنسِ والجِنِّ، فَكَمْ وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ تَدَاوَوْا بِالقُرْآنِ فَشَفَاهُمُ اللهُ مِنْ أَمْرَاضِ مُسْتَعْصِيَةٍ (أَيْ صَعْبَةٍ) كَانَتْ أَلَمَّتْ بِهِمْ ؟ وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ يَسَّرَ اللهُ أمورَهُمْ وَقَضَيْتَ حَوَائِجَهُم وَحَصَلَ لَهُمْ مِنَ الخَيْرَاتِ وَالأَسْرَارِ والبَرَكَاتِ وَالنَّفَحَاتِ مَا يُثلِجُ الصَّدرَ وَيُريحُ الفُؤَادَ؟ كيفَ لا واللهُ تعالَى يَقُولُ:
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ سورة الإسراء/82. ويَقُولُ أَيضًا
﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ الآية . (سورة فصلت/44).
واعْلَمُوا بأنّ اللهَ أَمَرَكُم بأَمْرٍ عَظيمٍ، أَمَرَكُم بالصّلاةِ على نبيِّهِ الكريمِ فَقَالَ :
﴿إنّ اللهَ وملائِكَتَهُ يُصلّونَ على النّبيِ يا أيُّها الذينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وَسلِّمُوا تَسْليماً﴾ اللّهُمّ صلّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صلّيْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنّكَ حميدُ مجيدُ اللهمَّ بارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كَمَا بَاركْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ.