من أروع ثمار التصوف الإسلامي المنبثقة من شجرة اليقين الذي هو حقيقة الإيمان: المكاشفات القلبية التي يحظى بها أولياء الله العارفون بعد قطع منازل السلوك وتحقيق كمال العبودية لله تعالى فاليقين هو غاية العبادة كما يفهم من قوله تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. . ومن ثم يقول العارف الرباني سيدي احمد الفاروقي السرهندي قدس الله سره :
بل المقصود من سلوك طريق الصوفية تحصيل ازدياد اليقين بالمعتقدات الشرعية حتى تخرج من مضيق الاستدلال إلى فضاء الكشف ومن الإجمال إلى التفصيل .
ولقد تناول العارفون في تصانيفهم حقيقة المكاشفة ووضعوا لها جملة من التعريفات التي تجسد حقيقتها
فقال السيد الشريف الجرجاني قدس الله سره الكشف في اللغة رفع الحجاب وفي الاصطلاح هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبة والأمور الحقيقية وجودا وشهودا .
ويقول أيضا المكاشفة وهي حضور لا ينعت بالبيان .
وفي التعريف بالمكاشفة أيضا يقول العارف الشيخ عبدالرازق القاشاني رضي الله عنه في معجم المصطلحات والإشارات الصوفية المكاشفة في العرف العام عبارة عن كشف النفس لما غاب عن الحواس إدراكه على وجه يرتفع الريب منه كما في المرئيات سواء كان انكشاف ذلك بفكر أو حدس أو سائح عيني حصل عن الفيض العام سواء كان مما يتعلق بالحقائق العلمية أو الأنوار الكونية الجزئية الكاشفة عن غيب ما وقع في الماضي أو ما سيقع في المستقبل .
وثمة بيان رائع لحقيقة الكشف والمكاشفة أدلى به القطب الغوث الفرد الجامع سيدي احمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه وأثبته الإمام الشعراني قدس الله سره في ترجمته من طبقاته الكبرى بقوله وكان رضي الله عنه يقول :
الكشف قوة جاذبة بخاصيتها نور عين البصيرة إلى فيض الغيب فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها المنيع إلى فيضه ثم يتقادف نوره منعكسا بضوئه على صفاء القلب ثم يترقى ساطعا إلى عالم العقل فيتصل به اتصالا معنويا له اثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب فيشرق نور العقل على إنسان عين السر فيرى ما خفى عن الإبصار موضعه ودق عن الإفهام تصوره واستتر عن الاغيار مرآة .
هذا بيان تحليلي لحقيقة المكاشفة يسطع من مشكاة عارف بصير يرى بنور الله قوة المكاشفة وهي تجذب لطائف المكاشف إلى فيض الغيب وتجسد انعكاس نوره على مرآة القلب وسريان هذا النور إلى العقل والسر حتى تنكشف المساتير وتتجلى الحقائق ببلوغ ما وراء الحجاب وجودا وشهود ما في الأعيان الثابتة .
لقد استدل أئمة العارفين لثبوت الكشف بأدلة من التنزيل الحكيم منها قوله تعالى فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم جديد قال الشيخ العارف المفسر سيدي إسماعيل حقي في تفسيرها:
وفي الآية إشارة إلى إن الإنسان وان خلق من عالمي الغيب والشهادة فالغالب عليه في البداية الشهادة وهي العالم الحسي فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب فمن الناس من يكشف الله غطاءه عن بصر بصيرته فيجعل بصره حديدا يبصر رشده ويحذر وهم المؤمنين من أهل السعادة ومنهم من يكشف الله عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إيمانها وهم الكفار من أهل الشقاوة .
ومن كلمات أمير المؤمنين على رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا يعني إن عين اليقين الحاصل لأهل الحجاب في الآخرة حاصل لأهل الكشف في الدنيا فأنهم ترقوا من علم اليقين إلى عين اليين في هذه الدار فطابوا وقتا فكأنهم في الجنان في الحال وكل يوم لهم المزيد.
كما يستدل على الكشف من السنة الشريفة بما رواه الإمام مسلم وابن ماجة وغيرهما إن النبي صلى الله عليه وسلم قال حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره .
وبقوله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بركوع ولا سجود ولا ترفعوا رؤسكم قبلي فاني أراكم من إماما ومن خلفي .
وهذا الكشف في حق النبي صلى الله عليه وسلم معجزة وفي حق الصحابة والأولياء كرامة كما في مكاشفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سيدنا سارية حيث نداء يا سارية الجبل وغير ذلك
ومن مكاشفات الصحابة رضي الله عنهم ما روى عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه تعالى انه لما حضرته الوفاة دعا ابنته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال لها انه ليس في أهلي بعدي احد أحب إلى غنى منك ولا اعز على فقرا منك واني كنت نحلتك من ارض بالعالية جداد عشرين وسقا أي قطع ثمر النخل فلو كنت جددته تمرا عاما واحدا انحاز لك وإنما هو مال الوراث وإنما هما أخواك وأختاك قالت فقلت إنما هي أسماء فقال وذات بطن ابنة خارجة قد ألقى في روعى أنها جارية فاستوصى بها خيرا فولدت أم كلثوم .
وكذلك نجد من مكاشفات سيدناعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقعته الشهيرة خلال واقعة نهوند التي أمر فيها سيدنا سارية بن زنيم الخلجي على جيش المسلمين في بلاد فارس فرأى سيدنا عمر وهو بالمدينة إن جيش المسلمين كاد ينهزم فصعد المنبر ونادى إثناء خطبته يا سارية الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم فاسمع الله تعالى سيدنا سارية وجيشه أجمعين صوت سيدنا عمر وهم على باب نهاوند فلجاوا الجبل وقالوا هذا صوت أمير المؤمنين فنجوا وانتصروا بفضل الله تعالى وببركة مكاشفة سيدنا عمر .
ومن مكاشفات الأولياء ما روى عن سيدنا أبي سعيد الخراز رضي الله تعالى عنه قال دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي هذا وأشباهه كل أي عالة على الناس فناداني وقال واعلموا إن الله يعلم ما في نفوسكم فاحذروه . فاستغفرت الله في سري فناداني وقال وهو الذي يقبل التوبة من عبادة ثم غاب عني ولم أره .
هذا جانب يسير من مكاشفات الأولياء الذين ينظرون بنور الله تعالى